... عالم المستقبل اللامرئي - "نانو تكنولوجي"

26 فبراير 2010 by: trtr388








تقنية النانو تسمح بخلق منتجات تعتبر خيالية قياسا إلى ما هو متوفر اليوم، كما تتيح شبكة استعمالات واسعة تشمل مجالات الطب، الهندسة، البيئة، علوم الكومبيوتر، علوم الفضاء، العلوم العسكرية، الطاقة، الزراعة والغذاء. وفي ميدان هذه التكنولوجيا بالغة الدقة، ثمة ضرورة للسيطرة على الذرّة الواحدة وعلى الجُزَيء الواحد. وهذه السيطرة تحقق من خلال ما يسمى "الراصف" وهو عبارة عن شخص آلي متناهي الصِغر لا يمكن بالطبع رؤيته بالعين المجرّدة، ولا يزيد حجمه عن حجم البكتيريا أو حتى عن الفيروس أحياناً. وبالنظر إلى ضآلة حجمه يمكن له الإمساك بالذرّة وبالتالي تفكيك أي مادة إلى مكوناتها الذرّية الأصغر. ومثل كل روبوت، يكون "الراصف" مزوداً بعقل إلكتروني يدير كل أعماله.

يتحكم البشر بالرواصف من خلال تحكمهم بالكومبيوترات التي تديرها. من هنا يمكن تخيّل راصف طبّي بحجم الفيروس يكون مبرمجاً لملاحقة البكتيريا التي تسبب مرضاً معيناً، وتدميرها، ما يؤدي لمعالجة أمراض عجز الطب التقليدي عن معالجتها.
من جهة ثانية يمكن لهذه الرواصف أن تُبرمج بحيث تصنع مركبات فضائية واحدتها بحجم قصاصة الظفر، تكون مزودة بكومبيوترات وأجهزة اتصال مع الأرض. وباعتبارها متناهية الصِغر، يمكن لها استغلال أي مصدر للطاقة في الفضاء، مثل الضوء أو أي نوع من الذبذبات، لتشتغل وتنطلق إلى مجرّات قصيّة لا يحلم الإنسان اليوم ببلوغها.
هذه التقنية المُذهلة أثارت منذ أن بدأ التداول بها، جدلاً كبيراً وصاخباً، إذ إنها بقدر ما تتيح من إمكانات، فإنها تعرض في المقابل مخاوف هائلة تهدد بإفناء الجنس البشري والقضاء على الحياة من أساسها.

وسنحاول في السطور التالية أن نطل على هذا العالم المعقد الفاتن والمغوي وشديد الخطورة في آن واحد.



يعتبر عالم الفيزياء الأميركي إريك دريكسلر المؤسس الفعلي لعلم النانو تكنولوجي. ففي العام 1986 نشر كتاباً بعنوان "محركات الخلق أو التكوين"، شرح وبسط فيه الأفكار الأساسية لهذا العلم، كما عرض للمخاطر الكبرى المصاحبة له.

دريكسلر قام في العام 1989 بإنشاء معهد "فورسايت للنانو تكنولوجي" في بالو التو في ولاية كاليفورنيا الأميركية، وهي مؤسسة لا تسعى للربح، هدفها توعية الرأي العام بخصوص نتائج التقدم في النانو تكنولوجي، والمساعدة في إعداد وتهيئة المجتمعات لهذه التكنولوجيا التي هي بصدد التحول إلى واقع.

في العام 1991 اكتشف العالم الياباني "سوميو ليجيما" أنابيب الكربون النانوية، المؤلفة من شبكة من الذرات الكربونية، في معامل أبحاث شركة "نيبون إلكتريك كومباني" للصناعات الإلكترونية في اليابان، كما تمكن الباحثان "وارين روبينيت وستان وليامز" من جامعة نورث كارولينا الأميركية في تشابل هيل، من اختراع جهاز المعالج النانومتري (النانو مانيبيو لاتور)، الذي يعد أحدث معالج مجس حسي دقيق، حيث سمح للعلماء أن يلمسوا ويشعروا بالجزيئات المتناهية في الصغر.


قصة كاتب الخيال العلمي الأميركي ثيودور سترجيون "الإله الميكروكوني" التي صدرت العام 1941، كانت من أوائل الأعمال الأدبية التي قدمت توصيفاً لما نسميه الآن بالنانو تكنولوجي.

يقوم بطل القصة المغرم بالإختراعات الجديدة، بإجراء تفاعل كيميائي عبر تسريع أحد أشكال الإنتقاء الطبيعي. يستطيع أن يخلق من خلال هذا التفاعل مجتمعاً من الكائنات الصغيرة جداً، أطلق عليها اسم "نيوتريكس".هذه الكائنات قادرة على النمو والتطور بصورة سريعة جداً، ما يمكنها من تحقيق إنجازات تكنولوجية مذهلة.

قصة "والدو" لكاتب الخيال العلمي الأميركي روبرت هيلين المنشورة العام 1942، هي المرجع الذي قدم للمرة الأولى فكرة الأذرع الميكانيكية الدقيقة، التي استخدمت لاختبار المادة عبر مقاييس فائقة الدقة.

بطل القصة العالم والدو يخترع روبوتاً يمكن التحكم به عن طريق حركة اليدين، كونه يحاكيها تماماً، ولكن بسرعة تبلغ نصف السرعة الأصلية. هذه الطريقة تمكن اليد البشرية، بعد تكرارها، من النجاح في إنتاج أدوات دقيقة جداً.

الجدير بالذكر أن هذه الفكرة التي كانت عبارة عن منتج من منتجات الخيال، تبناها تماماً عالم الفيزياء الأميركي الشهير "ريتشارد فينمان " في محاضرته أمام الجمعية الفيزيائية الأميركية، والتي حملت عنوان: "هناك متسع كبير عند القاع"، والتي تعد أساسية في تأسيس مجتمع النانو تكنولوجي المعاصر.

العمل على فكرة التصغير وصل إلى أبعاد هامة في فيلم الرحلة الخيالية، الذي كان قد تبلور كرواية من تأليف الكاتب الأميركي الشهير إسحاق أسيموف. وقد صدر الفيلم والرواية في العام 1966.

الفكرة الرئيسية التي  تسود في الفيلم وفي الرواية  تتخذ من الصراع الدائر بين الأميركيين والسوفيات، حول السيطرة على تكنولوجيا التصغير، موضوعاً لها.
يصور الفيلم نجاح القوات العسكرية لكل من البلدين في امتلاك تقنية  تصغير، تمكنهما من وضع جيش كبير كامل داخل زجاجة صغيرة.
تشير رواية "الفريسة" للكاتب الأميركي "مايكل كرايتون" الصادرة العام 2002، إلى المخاطر الهائلة التي تمثلها تقنية النانو، إذ تتحدث عن حشود من الروبوتات النانوية المتناهية الصغر.

ينبه كرايتون في روايته إلى اللاعقلانية التي يمكن أن تحكم طريقة تعاملنا مع هذه التقنية.



تطبيقات تقنية النانو واسعة وتكاد تشمل كل أنواع العلوم والصناعات. هذه التقنية ستكون قادرة في فترة قريبة على التأثير في كل مجالات الحياة، بطريقة لا يمكن توقعها، وتفوق قدرة الخيال على تصورها.

العالم دافيد بيشوب من مختبرات شركة "بيل" لتكنولوجيا "لوسنت" في نيوجرسي الأميركية، يعلن أنه من الصعب تصور صناعة لا تكون عرضة لتدخل النانو تكنولوجي.
لم تعد المجالات التي تتدخل فيها هذه التقنية من قبيل الاحتمال أو الوعود، فقد دخلت بالفعل إلى حيز التطبيق في العديد من المجالات. العام 2003 نجحت سالي رامسي رئيسة الباحثين الكيميائيين، والشريكة في تأسيس شركة التغليف البيئي الأميركية، باستخدام جزيئات نانو صغيرة جداً من أوكسيدات معدنية، لتصنيع طبقة عازلة للماء توضع فوق الورق، وذلك بنصف تكلفة تصنيع الورق الصناعي.

شركة "آيوجير" الأميركية أعلنت في أيلول 2006 أنها طورت فأرة كومبيوتر (ماوس)، تكافح الفيروسات التي تعلق على سطحها وتصيب الإنسان. أطلقت الشركة على الفأرة الكومبيوترية اسم "الماوس اللاسلكي الليزري الخالي من الميكروبات".
الإنجازات التي تحققت في هذا الميدان حتى الآن ما هي إلا مقدمات بسيطة، تشي بالإمكانيات الهائلة التي تعد بها هذه التقنية، من قبيل القضاء على الأمراض وتحقيق الوفرة، وصناعة معدات أقوى وأكثر فاعلية بما لا يقاس، مقارنة بما هو موجود حالياً. وهي تعد أيضاً بإمكانية إنشاء مصعد فضائي وبالقضاء نهائياً على التلوث.


المجال الأبرز الذي تستخدم فيه هذه التقنية، وهو المجال العسكري، يقدم في المقابل وعوداً مضادة، تقول ببساطة إن أي حرب مقبلة تستخدم تقنية النانو، سوف تكون مدمرة وذات نتائج كارثية تفوق كل ما عرفته البشرية من كوارث. من هنا ليس من قبيل الصدفة أن تكون إسرائيل هي الدولة الاكثر اهتماماً بهذه التقنية في المنطقة، حيث أن رئيس الوزراء المستقيل إيهود أولمرت أعطى، في تشرين الثاني 2006 إثر حرب تموز، الضوء الأخضر لإنشاء ترسانة من الأسلحة تعتمد النانو تكنولوجي.

شيمون بيريز من جهته صرح معلقاً "لقد أثبتت حرب لبنان أننا بحاجة إلى وسائل قتالية صغيرة جدا، فمن غير المعقول أن نرسل طائرة تصل كلفتها إلى أكثر من 100 مليون دولار، لملاحقة مقاتل انتحاري واحد، ولهذا فتكنولوجيا النانو ستتيح لنا بناء أسلحة مستقبلية"، معتبرًا أنّ "النانو تكنولوجي هي مفتاح الدفاع عن إسرائيل في الصراعات العسكرية المستقبلية".

الجدير بالذكر أن إسرائيل بدأت فعلاً بالعمل على عدد من المشاريع السرية في هذا السياق، وهو ما ألمح إليه بيريز في محاضرات عامة.

أبرز هذه المشاريع التي لا يعرف عنها سوى عنوانها، والتي تهدف إلى إنجاز مشروع "لآلئ الحكمة"، هي كناية عن مجسات متناهية الصغر يمكن نشرها في "مناطق العدو"، بالإضافة إلى مشروع أطلق عليه اسم "دبور الذكاء"، وهو عبارة عن طائرة صغيرة جداً، يمكن وضعها في الأزقة الضيقة لتشويش الإتصالات وقتل المسلحين، ومشروع "مجسات ضد الإنتحاريين"، وهي آلات متناهية الصِغر يمكن وضعها في الأماكن العامة بحيث يكون بإمكانها تحديد المفجر الإنتحاري عن بعد، عن طريق رصد روائح المواد المتفجرة وحرارتها ووزنها.



الإغراءات والوعود التي تغدقها علينا تقنية النانو لا ينبغي أن تغيِّب السؤال عن حدودها ومخاطرها. فهي تقنية تتجاوز المعقول بل تتجاوز حتى الخيال. في حين لا ضمانة في أن تكون استخداماتها آمنة، طالما لا يمكن التنبؤ إطلاقاً بما ستكون عليه المادة المصنّعة عندما تصل إلى هذا المستوى من الصغر.

الإمكانيات العسكرية التي تتنافس عليها الدول الكبرى وتخصص لها ميزانيات ضخمة،  تنذر بصناعة أسلحة يصبح معها كل ما نعرفه من أسلحة عصرية اليوم، عبارة عن خردة. هذه الوقائع تقول إن هذه التقنية لا يمكن لجمها، وإن خطرها موازٍ للإمكانيات التي تتيحها. فهو هائل ويفوق التوقعات بقدر ما تعد به هذه التقنية من تغيير جذري ونهائي في نوعية الحياة وطبيعتها.

فقد تنتج هذه التقنية روبوتات لا يتجاوز حجمها الواحد على المليار من المتر، في فترة قريبة. على أن تكون هذه الروبوتات قادرة على القيام بعمليات مزدوجة، من مجرد الدخول إلى الجسم البشري وزرع الأدوية فيه بتركيز عال بالغ الدقة وبدون أي آثار جانبية، كذلك يمكنها  أن تزرع فيه مواد قاتلة غير مرئية.

وإلى ذلك يجب ألاّ ننسى أن هذه التقنيه ما هي إلا وسيط تكنولوجي، لا يمكن أن يكون مفيداً ما لم تتم مواكبته بوعي مواز باحث وشكاك ومدقق. ونعلم أن العقل الإرهابي في كل العالم قد أبدى قدرات هائلة على فهم التكنولوجيا واستيعابها واستخدامها، مع احتفاظه بنظام أفكار وقيم لا تنتمي إطلاقاً إلى هذا الزمان ولا حتى أي زمان.

النانو تكنولوجي هي تقنية تحديث طالما بقيت داخل العقل، أما إذا تفلّتت من أسر العقل، فلا يمكن تصور حدود لاستخداماتها.. في ظل وجود خشية لدى العلماء من استخدام تقنيات النانو لأغراض غير إنسانية، حيث تكون المخاطر المحتملة بحجم إنهاء أشكال الحياة على الكوكب. وبحسب ما يقول العالم المتخصص في هذا المجال "نبيل جوي" فإن تقنيات النانو يمكن أن تكون مدمرة تماماً ولا سيما حين تؤدي إلى ظهور ما يسمّيه "جود الرمادي" وهو عبارة عن آلة بالغة التطور ومتناهية الدقة، لديها المقدرة على استنساخ ذاتها كما الميكروبات، ما يؤدي إلى نشوء جحافل هائلة من التجمعات الآلية الصغيرة جداً والتي يمكنها اجتياح أي شيء واقتلاع كل ما في طريقها، بحيث يمكنها أن تبيد أشكال الحياة كافة على وجه الأرض.

وعلى الرغم من كون ذلك مجرّد احتمال، إلا أنه لا يجوز النظر ببساطة أو بخفّة إلى احتمال إبادة أشكال الحياة على كوكبنا الأزرق...!

فهل تسرّع هذه القفزة الهائلة للتكنولوجيا وصول حضارتنا إلى نقطة “THE END”؟ 




لبنان  الان

أرسل إلى خبرية
...تحت تصنيف: