أجراس الخطر التي لا يسمعها أحد - فهمى هويدى

01 سبتمبر 2009 by: trtr388



حين يصبح السؤال هو متى تغرق دلتا مصر، وليس هل ستغرق
أم لا، فإننا حين نستخف بالمسألة ونقف متفرجين على ذلك الحوار بغير أي حراك، نرتكب
جريمة لن تغفرها لنا الأجيال القادمة.


(1)ثمة حالة من البلادة مهيمنة على مجمل التفكير المستقبلي في مصر، تثير الدهشة وتبعث على الحيرة

وقضية مصير الدلتا (عشرة آلاف ميل مربع يسكنها ثلثا أهل مصر وتزود البلد بستين في المائة من احتياجاتها الزراعية) تمثل بنداً واحداً في قائمة قضايا المصير المهدد التي يبدو أنها لا تحتل ما تستحقه من اهتمام وجدية، فالمشكلة السكانية التي تتردد كل حين على ألسنة كبار المسؤولين، معروفة ومشهورة في كل الدراسات السكانية والاقتصادية منذ أكثر من أربعين عاما، ووصول عدد سكان مصر إلى 80 مليون نسمة بداية الألفية الجديدة ليس فيه أي مفاجأة. وارتفاع هذا الرقم إلى أكثر من 90 مليونا في سنة ،2020 لا يحتاج إلى عراف أو قارئ كف، لان هذا تقدير ثابت في سجلات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ورغم أن الأمر بهذا الوضوح فإن المسؤولين في الحكومة يتعاملون معه باعتباره مفاجأة لم تكن في الحسبان. أولا يكتفون بذلك، وإنما هم لا يكفون عن تقريع الشعب المصري واتهامه بعدم المسؤولية وقصر النظر، مع أن هذا الاتهام ذاته ينبغي أن يوجه أولا إلى الذين أحيطوا علما بالمشكلة منذ عقدين أو أكثر، ومع ذلك لم يتحسبوا لها ولم يحاولوا التعامل بجدية مع تداعياتها.نفس الشيء حاصل في موضوع آخر بالغ الخطورة هو مياه النيل، التي “اكتشفنا” هذا العام أننا يجب أن نقيم علاقات تعاون إيجابية مع دول حوضه، تحقق المصالح المتبادلة بين الطرفين، وقد أفاقت مصر على تلك الحقيقة حين اجتمعت دول الحوض في الكونغو خلال شهر أبريل/نيسان الماضي وبحثت عقد اتفاقية إطار جديدة، تتجاوز الاتفاقيات الثنائية التي كانت موقعة في الماضي، من دون الأخذ في الاعتبار طلب مصر الحفاظ على حقوقها التاريخية في مياه النيل، استيقظت مصر من سباتها، حين أدركت أن هناك خطراً يهدد شريان الحياة الرئيس لها، في حين لم تتحرك طيلة السنين التي خلت لضمان الحفاظ على حقوقها، حتى بدا أن الحضور “الإسرائيلي” في دول حوض النيل أقوى من الحضور المصري.(2)الحديث عن احتمالات غرق دلتا النيل هو الذي قلب هذه المواجع، ذلك أننا فوجئنا ذات صباح بعنوان رئيسي في صحيفة “الشروق” عدد 22/8 يقول: أن احتمال غرق الدلتا، يهدد بكارثة كاملة، وكانت تلك النبوءة ضمن عدة خلاصات انتهى إليها تقرير اللجنة الحكومية للتغير المناخي، التي يرأسها نائب الرئيس الأمريكي الأسبق آل جور، وأبرزتها صحيفة “الجارديان” البريطانية، التي أكدت أن دلتا مصر بين أكثر ثلاث مناطق في العالم معرضة للغرق بسبب ارتفاع منسوب مياه البحار نتيجة ذوبان الجليد من القطبين جراء ارتفاع حرارة كوكب الأرض، توقع الخبراء أن تفقد مصر 20% من مساحة الدلتا خلال المائة عام المقبلة، في حال ارتفع مستوى مياه البحر المتوسط لمتر واحد فقط، أما السيناريو الأكثر تشاؤما فيضع في الاعتبار احتمال زيادة مستوى البحر لحده الأقصى المتوقع، ما يعني غرق الدلتا بالكامل لا قدر الله ووصول البحر المتوسط إلى الضواحي الشمالية لمدينة القاهرة.في عدد “الشروق” ذاته (22/8) علق على التقرير الدكتور سامي المفتي، خبير البيئة العالمي والأمين العام السابق لمركز بحوث الصحراء، إذ قال أن الملف مفتوح منذ التسعينات، حين أشارت الدراسات إلى أن التغيرات المناخية أدت إلى ارتفاع درجة الحرارة في العالم بمعدل درجتين مئويتين، وهذا يعرض للغرق منطقتين هما دلتا النيل وبنجلاديش.وأضاف، أن احتمالات مواجهة هذا الخطر في الدلتا لن تظهر قبل نحو 30 أو 40 عاما وأنه بحلول عام 2100 سوف يصل ارتفاع منسوب المياه إلى 90 سنتيمترا، وهذا من شأنه أن يغرق بعض المناطق في دلتا النيل.وتحدث الدكتور المفتي عن ضرورة تحرك الدولة لتدارك هذا الخطر والتحقق من مداه وحدوده.وشدد على أهمية أن يكون ذلك التحرك على مستويين، أحدهما محلي يشمل رفع مستوى الطريق الدولي الساحلي مذكرا بأن سور أبوقير الذي بناه محمد علي باشا حمى الدلتا من الغرق. المستوى الثاني إقليمي ويتمثل في الأخذ باقتراح قدمه في سنة ،90 خبير البيئة العالمي الدكتور عبدالفتاح القصاص، ودعا فيه إلى إقامة قنطرتين، إحداهما عند مضيق جبل طارق، والثانية عند باب المندب، لمنع تأثير ذوبان الجليد وتمدد المحيطات على البحر المتوسط والأحمر والأسود.الخبير الاستشاري الدكتور ممدوح حمزة، اتفق على أن هناك مشكلة خطيرة، وانتقد المبالغة في حجمها، ولديه مشروع دعا فيه إلى محاسبة قضائية للدول التي تسببت في ارتفاع درجة حرارة الأرض، ومن ثم سوء المناخ العالمي.وعلى رأس هذه الدول الولايات المتحدة واستراليا والاتحاد الأوروبي، إذ اعتبر أن العالم العربي يدفع ثمن أخطاء دول أخرى هي المسؤول الأول عن الاحتباس الحراري، ولذلك طالب بأن تسهم تلك الدول في نفقات إنقاذ الدلتا من الغرق، وذكر أن لديه مشروعا للإنقاذ أعلنه في ،2007 ينفذ على مراحل خلال 20 سنة، كما نبه إلى أن الخطر الذي يتحدث عنه الخبراء، بدأت ملامحه تظهر في الأفق، ودلل على ذلك بأنه أثناء حفر الآبار في الدلتا لوحظ خروج مياه البحر منها، وهو ما يعني أن التهديد بغرق الدلتا ليس سطحيا فحسب، لأن تربتها ليست طينية فقط، ولكنها رملية أيضاً، وعن طريق البحر تنفذ المياه وتتسرب إلى باطن الدلتا.(3)الأمر ليس تهويماً أو افتراضاً فقط، لكن التهديد قائم ونذره لاحت بالفعل.ويبدو أن مصادر التهديد متعددة، آية ذلك أن جهات أخرى عدة مابرحت تدق أجراس التنبيه والإنذار، داعية الغافلين والنائمين للإفاقة من سباتهم العميق، خذ مثلا تلك الدراسة التي أعدتها الهيئة المصرية للاستشعار عن بعد، التي حذرت من احتمال اختفاء الأراضي الزراعية في مصر بعد نحو 60 عاما، إذا ما استمر التوسع العمراني العشوائي بمعدلاته الحالية المرتفعة، فقد ذكر الدكتور عباس زغلول رئيس شعبة التطبيقات الهندسية والمياه في الهيئة أن عمليات الرصد التي استخدمتها الأقمار الصناعية اثبت أن ثمة تراجعاً مستمراً في مساحة الأراضي الزراعية، فمحافظة كفر الشيخ في شمال الدلتا تراجعت بنسبة 20% خلال العقدين الأخيرين، وفقدت منطقة شرق الدلتا نحو 34% في أراضيها الزراعية خلال الفترة ذاتها، أضاف أن بعض العلماء يتوقعون أن تخسر مصر بحلول عام 2050 نحو 17% من مساحة الدلتا نتيجة الزحف العمراني العشوائي على الأراضي الزراعية، الذي تمثل في الانتشار السرطاني للقرى والمراكز والمدن وتغوله المستمر على الأراضي الزراعية.ولا يرى أولئك الخبراء مناصا من إعلان الوادي والدلتا محمية طبيعية يحظر البناء عليهما، مع إعادة تخطيط وتقسيم خريطة المحافظات في مصر، بحيث تكون لكل محافظة مساحة من الظهير الصحراوي تسمح لها بالتمدد العمراني لصالح السكان أو مشروعات التنمية.خذ أيضاً تلك الأجراس التي أطلقتها ورشة العمل التي عقدها في شهر يوليو/تموز الماضي مركز معلومات الأمن الغذائي التابع لوزارة الزراعة مع منظمة الأغذية والزراعة االفاوب التابعة للأمم المتحدة. إذ تحدث الخبراء فيها عن ارتفاع سلة الأغذية الأساسية بنحو 47% خلال السنوات الثلاث الأخيرة. الأمر الذي أوصل نسبة الذين أصبحوا يصنفون عند الحد الأدنى من خط الفقر المدقع إلى 6%، وهو ما أدى إلى تدهور وضع الأطفال أقل من خمس سنوات، حيث أصبحوا أكثر من يعانون من مشكلات نقص التغذية في مصر، حيث ارتفعت نسبة سوء التغذية من 18% سنة 2005 إلى 25% في سنة 2008.حسب تقدير خبراء “الفاو” فإن مستوى الاكتفاء الذاتي من الحاملات الزراعية تراجع بشكل ملحوظ خلال السنوات الثلاث الأخيرة رغم الزيادة المستمرة في عدد السكان، فقد كانت نسبة الاكتفاء الذاتي من الحبوب في بداية السبعينات 68%، وهذه النسبة تراجعت في سنة 2006 لتصل إلى 62%، مما جعل مصر المستورد الأول للقمح في العالم، كما انخفض الاكتفاء من اللحوم في الفترة ذاتها. من 95% إلى 9.74%، بينما تراجع الاكتفاء الذاتي من الزيوت النباتية بنسبة 50%.(4)لا وجه للمقارنة بين هذا التراخي الذي نلمسه في مصر وبين التعبئة واسعة النطاق الحاصلة في دول الاتحاد الأوروبي للحفاظ على البيئة ومواجهة آثار الاحتباس الحراري، ذلك أن من يطلع على الإجراءات الحازمة والاحتياطات التي اتخذت في دول الاتحاد لمواجهة احتمالات المستقبل. يدرك أن الفرق بين ما يحدث عندنا وعندهم هو عين الفرق بين الجد والهزل. يكفي أن تعلم مثلا أنه منذ ثلاثين عاما (سنة 1979) أصدرت المجموعة الاقتصادية الأوروبية أكثر من 300 توجيه وتعليمة لحماية البيئة، الأمر الذي دفع الدول الأوروبية إلى تعديل نظمها وممارساتها التزاما بتلك التعليمات، حتى أنهم في فرنسا، واعتبارا من أول نوفمبر/تشرين الثاني عام ،2006 أصبح من شروط بيع أي مسكن تقديم شهادة لتقييم أداء الطاقة، يقوم بتحريرها خبير يحدد قيمة استهلاك الطاقة المتوقع للمسكن، وهو أحد الإجراءات التي تقررت لمواجهة التغيرات المناخية، وهناك حملة واسعة النطاق في مختلف الدول الأوروبية لحث المواطنين على استخدام الدراجات في الانتقال بديلا عن السيارات لتخفيف التلوث والحد من استهلاك الطاقة، وقد حققت هذه الحملة نجاحات ملموسة في فرنسا وإنجلترا وهولندا والنمسا.أن المرء لا يستطيع أن يخفي دهشته وانزعاجه من تفشي عدم الاكتراث بالمؤشرات والإنذارات الخطيرة التي يتحدث عنها العلماء، خاصة بالدلتا ومستقبلها، بما يوحي بأن هذا الملف لا يمثل أولوية في تربية اهتمامات السلطة، وأرجو أن أكون مخطئا في ظني أن الانشغال بانتقال السلطة في مصر أصبح الشاغل الأساسي لأولي الأمر في البلد، الذي صرف الانتباه عن أمور كثيرة، بعضها كما رأيت يتعلق بمستقبل البلد ذاته.أدري أن مشكلات مصر كثيرة وثقيلة الوطأة، لكننا نفهم في السياسة أمرين، أولهما أن المشكلات ينبغي أن ترتب حسب أولوياتها، بحيث تحتل القضايا الحيوية والمصيرية رأس تلك الأولويات، الأمر الثاني أن من لا يستطيع أن يتصدى لحل مشكلات البلد، عليه أن يرفع يده عنها، بحيث يخلي موقعه لغيره لكي يجرب حظه في حلها، لكن الحاصل أن مسؤولينا الذين احتكروا السلطة في البلد فشلوا في ترتيب الأولويات وعجزوا عن حل المشكلات الكبرى، فلا هم رحموا ولا هم انسحبوا لكي تنزل رحمة الله على الخلق.


-عن صحيفة الخليج الإماراتية


أرسل إلى خبرية